بعد أن كنا نسينا أو تناسينا الشيخ إمام، وجدناه يستيقظ فى ذاكرتنا ووجداننا فى ميدان التحرير، واليوم فى الذكرى السادسة عشرة لوفاته، نجده أكثر حضورا ولمعاناً ونفوذاً، رُفع عنه الحظر وصار صوت الثورة ومغنى الشباب، الذين لم يعاصروه فبعثوه ومنحوه قبلة الحياة لكى يكون قبلة الثوار.

كما لم تشتر الشيخ إمام مؤسسة إعلامية، لم تشتره أو تحتكره أيديولوجية محددة، فهو وإن كان ينتمى لليسار، فإنه لم ينتم لفصيل معين منه بالذات، وأيضاً لم يسلم بعض مثقفى اليسار من لسانه الحاد، فإمام كان حزباً سياسياً مستقلاً متحركاً بين الناس لا قابعاً بين الجدران، وعن هذا البسيط الذى كان فيلسوفاً، رغم أنه لم يحفظ أى مصطلح فلسفى، كتب أكبر فلاسفة مصر المعاصرين فى سابقة لم تحدث من قبل، فغالباً ما يكون الفيلسوف أسير دور الأوبرا والباليهات والكونشرتات والسيمفونيات، ويعللون ذلك بأن الموسيقى السيمفونية هى موسيقى أقرب للفلسفة بتركيبتها وتداخلها النغمى أو ما يطلق عليه البوليفونية،

أما الموسيقى الشرقية، فهى فى نظرهم مسطحة ذات بعد واحد، لكن عظمة الشيخ إمام جعلت هؤلاء الفلاسفة ينزلون من عليائهم ليجلسوا ويربعوا على الأرض ليسمعوه، فيقول د.فؤاد زكريا الذى يصفه بأنه أكبر من فنان: «الشيخ إمام لم يتوجه إلى الناس بوصفه فناناً فحسب، بل هو يجمع بين صفة الفنان وصفة الخطيب السياسى والناقد الاجتماعى الساخر»، ويمضى فى وصف أدائه فيقول: «أداء هو مزيج من الإنشاد والدعوة أو الخطابة وصيحات الحماسة والإعجاب وهمسات الاستنكار وغمزات اللوم والتقريع، إنه يترك فيك إحساساً بأنه يدعوك إلى شىء، ولا يكتفى بإمتاعك فنياً، وحين ننظر إليه فى ضوء هذا الهدف الأوسع،

نجد أن جوانب النقص فيه قد تحولت كلها إلى مزايا تخدم غرضه الحقيقى، فقلة الآلات الموسيقية تزيد من إحساسك بإخلاصه، وصوته الذى لا يخلو من رنة الخشونة يزيده ارتباطاً بالشعب الكادح الذى يغنى له». ويقول عنه فيلسوف آخر هو حسن حنفى: «هو ينعى جيفارا كما تنعى نساؤنا الأموات، وينط مع (الحتة الملعب) فى لحنه وأدائه، ويباسط مع ابن البلد فى (يا عم روق)، وإذا دخل الروم مصر وانكسر الباب أطال الشيخ فى عبارة (رايحين فى النوم)، ثم إن اللحن الأساسى لا يتغير عنده بتغير أوجه الأداء، بل فى كل مرة أداء جديد، وكأنما أسمعه لأول مرة، فهو يعيش اللحن من الداخل». وعن قدراته الموسيقية يقول الناقد الموسيقى الأكاديمى فرج العنترى: «إنه يتمتع بحنجرة تينور غنائى سليم القرارات لامع الجوابات، وعزف العود يدل على مهارة فى تحريك ريشة الضرب بتدفق رشيق يخلو من النتوء والخربشات، ويتيسر فى سلاسة يزخرفها إبداع ذاتى من ارتجالاته».

هكذا اجتمع حول إمام الأسطوات والصنايعية وطلبة الجامعة وأساتذة الفلسفة ونقاد الموسيقى، وحتى أبناء الطبقة الأرستقراطية، كل هؤلاء جمعهم بالبلدى حسه الحلو وهو ما يطلقه أبناء المحروسة على من يخرج صوته من فؤاده، وتتصل أحباله الصوتية بنبض القلب.. هذا الحس الحلو رغم الشيشة والجوزة كان جواز مروره للملايين من أبناء الوطن العربى، من المحيط إلى الخليج، وتشهد على ذلك حفلاته التى أحياها فى بيروت وباريس والمغرب العربى فى الفترة من ١٩٨٣ إلى ١٩٨٦، والتى كانت تزدحم بالجمهور الذى كان يجذبه فقط مغناطيس حس الشيخ إمام، هذا الحرفوش الذى غنى أجمل أغنية لمصر بهية «أم طرحة وجلابية /الزمن شاب وانتى شابة /هو رايح وانتى جاية /جاية فوق الصعب ماشية /فات عليكى ليل وميه /واحتمالك هو هو /وابتسامتك هى هى /تضحكى للصبح يصبح/ بعد ليلة ومغربية /تطلع الشمس تلاقيكى معجبانية وصبية يا بهية».